نوفمبر 1, 2019 syr data

ريتا..قاصر وأسيرة سورية من نـوع آخـر

هيومن فويس- خاص

لم تكن تعلم “ريتا” التي دخلت عامها السابع عشر قبل أيام، بأن دورة الحياة ستنقلب بها خلال سنوات قليلات من مقاعد الدراسة والتفوق، إلى بيت الزوجية والمسؤولية التي لا تعرف قواعدها بعد ولم تعلمها الحياة أدنى تفاصليها، ولم تكن تدري “ريتا”- الطفلة الوحيدة لعائلاتها بأنها أصبحت حاجزاً أمام أبيها وأختها الصغار، الذي اختاروا ركوب البحار للهروب من حجيم الحرب السورية، ليفضل والدها تزوجيها لابن أحد أصدقائه، خوفاً عليها من البحر، وأن يخلي مسؤوليته عنها قبل الخروج خارج حدود سوريا الجغرافية.

ريتا- وخلال حوار خاص مع “هيومن فويس”، قالت: كانت هوايتي مدرستي ومقاعدها، وكنت أرسم مستقبلي الذي انتظره على أوراق دفتري منذ أن كنت في الصف الثاني- ولكنني لم أدرك يوماً بأن أحلامي المدرسية، وخيالي الواسع ستكون نهايته أربعة جدران في منزل مهجر وسط سوريا، لأصبح بين تلك الجدران، زوجة بجسدي وأحلامي لا زالت هنالك حيث كنت أرسم وأحلم، لا هي أعادتني لطفولتي، ولا تركني أعيش ما كتبته الأقدار على حاضري.

وقالت: “الحرب عصفت بمدينتي، وأنا في الصف السابع، وأنا وحيدة عائلتي من الفتيات وأصغر إخوتي، ووالدتي معتقلة في سجون النظام السوري منذ سنوات، كنت من المتفوقات بمدرستي، واجتهدت على نفسي فأتنقنت اللغة الإنكليزية، وأجدت بالشعر والقصص الروائية”، إلا إن ما اكتبه منذ سنوات، لا تسمعه سوى جدران غرفتي، التي منحت لي من قبل زوجي لدى عائلته.”

ريتا..لم تجد سوى تفاحة لتبلغها ما تعانيه، بعد هجرة زوجها عقب أيام فقط من زفافهما..وتركها للمجهول.

وبعد تهجيرنا من مدنتنا، جنوبي دمشق، قبل أعوام، وخلال تواجدنا في حمص وسط سوريا، قرر والدي نتيجة الضغوط النفسية وتأثره بالحرب التي لم تضع أوزارها، أن يهاجر نحو الدول الأوروبية، ليهرب بأخوتي من الخدمة العسكرية ومن طيشان الشباب في بلدي”.

فرحت كثيراً، باننا سنغامر بحثاً عن أطراف حياة تستقبلنا وحملنا الثقيل، ولكن فرحتي لم تدم سوى أيام تشاور والدي مع مجموعة من أصدقائه للتحضير للسفر، وإذا بقرار صادم واجهني به والدي “ريتا حبيبتي، لا يوجد أي فتاة بين الغروب الذي اتفقنا معه على النزوح نحو أوروبا، سواكِ، ولهذا لن أغامر بك في البحر، وهناك شاب نعرف عائلته، يريدك خطيبة له”!!

هنا- لم يعد جسدي ولا قلبي ولا عقلي هنــا، هرب جميعهم مني، وبقيت الصدمة تمتلكني- أبي أتريد أن تزوجني؟ أنا أتزوج! وضحكـت ضحكة ملئت عيناي دمعاً لم أعد أعرف كيف أوقفهما، فقال والي بصوت عالي: نعـم تتزوجين، لست بصغيرة، لن أغامرك بك بين كل هؤلاء الشباب والرجال، والزواج أفضل الخيارات لنا ولك…

وتضيف، ريتا- بعد يومين فقط، من تلك المقدمة القاتلة، استدعتني جدتي إلى غرفتها، لتقنعني بالزواج وأهميته، وكم هو جميل أن أصبح أماً وزوجة، وصاحبة منزل! وهنا وجدت أن كل الخيارات معـدومة.. فأما أن انتحر أو أهرب حيث المجهول، أو أقبل بما حاكته عائلتي ضـدي، وهم فرحون مسررون.

ريتا: الأزهار الصفراء من مرارة هذه الأيام.. هنا تغير كل شيء، وهنا تحول الحلم إلى كابوس

ليكن خياري قبول المكره لما طلبوه، هرباً من الانتحار بداية، وهروب من العار الذي قد ألحقه بعائلتي لو هربت من هذا السجن المؤبد، كان حلمي أن أصبح طبيبـة.. لكنني أصبـحت مريضة..

الأم.. مدرسة الحياة، وملهمة الجد والاجتهاد، وحاجزاً أمام عواصف الحياة، ولكنني اليوم، أحن إلى والدتي المعتقلة في سجون النظام السوري منذ سنوات.

لتتم الخطوبة مع زوجي الحالي (الغير موجود في سوريا) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد ثلاثة أيام فقط- غادر والدي وأخوتي الأراضي السورية.. نحو حياتهم الجديدة، راكبين البحر لتحقيق ذلك.

وتقول “ريتا”: هنا وضعني والدي كـ “أمانة” لدى بيت جدتي، ريثما يتم عقد قراني من “عبد الرحمن”، الذي رأيته خلال فترة الخطوبة أربعة مرات فقط- بسبب إنتزاع العمل لكامل وقته، وعندما قرر مع والدي موعد الزواج، جاء إلى سوريا، ليصبح ذلك الكابوس، واقعاً.

ريتا، وهي تبكي تتحدث، خبرتي في هذه الحياة، لا تتعدى سوى لملمة أغراض المنزل، وتجميع الأواني في المطبخ، لا أعرف حتى كيف يتم تحضير “الشاي” ولكنني أصبحت زوجة، منذ سنوات، بعد أن قلمي ودفتري، قد أخذوا فيما سبق كل أنواع الحب الطفولي من قلبي.

ألبسوني الفستان الأبيض، وأنا أنظر للعامة كيف يتراقصون ويتمايلون من حولي، وأنا جسدي يشاركهم المكان، وفي عقلي تدور كوابيس وأضغاث الأحلام، ليمكث زوجي يومين فقط في غرفتنا الصغيرة، ثم يعتذر عن البقاء أكثر، لأن عمله في المهجر كبير، ولا يستطيع التأخر أكثر من ذلك، لتمضي فقط ثلاث سنوات، بعد اليومين الذين أعطاهم لي ولطفولتي وحاضري.

لتصبح حياتي الزوجية، محصورة بالواتسآب الخاص، بوالدة زوجي، وأنا ممنوعة حتى من اقتناء هاتف زكي، خوفاً عليي، أو ربما خوفي مني! ولا أستطيع أرى شمس حارتنا، إلا عندما ترغب “والدة زوجي”، وبرفقتها طبعاً وحصراً.

وتقول “ريتـا”: تركني والدي ها هنا، أموت ولا أحيا، وقلبي يعتصر على أخوتي، تصلني صورتهم كل عدة أشهر، إنهم يكبرون، فرحون، سعيدون، والأجمل من ذلك.. لا زالوا يدرسون ويتعلمون، أما أنا فلا أزال احتضر بين قرار والدي الذي تخلى عني، رغم انني وبعلمه اليقين “طفلة صغيرة قاصرة- لا أعرف سوى المدرسة وأحلامي الوردية”، وبين زوجي، الذي أشغلته الدنيا عني، وتُركت هنا وحيدة، أكبر بجسدي، أما أحلامي، فأصبحت كوابيس تلاحق أيامي.

وتختم ريتا، معاناتها المستمرة بالحديث: اشتاق لوالدتي مع ورود كل صباح، وحضور الليل، فقد كانت والدتي نبع أحلامي، وملهمتي نحو ذلك المستقبل الذي لا زال حبر على أوراق الذكريات.

تنويه: تمّ انتاج هذه القصة الصحفية بدعم من منظمة “صحفيون من أجل حقوق الإنسان” الكندية وصندوق الأمم المتحدة للديمقراطية.
%d