أكتوبر 28, 2019 syr data

نساء إدلب يستعدنَ أدوارهن رغم الحرب

عدنان العبد الله – صدى الشام

لم يجُل في مخيّلة “يمامة أسعد” أنها ستدخل يوماً مجال الإعلام، ولم تكن ابنة التسعة والثلاثين عاماً والأم لطفلين، لتفكر قبل ست سنوات من اليوم أنها ستكتسب كل هذه الخبرات التي تمتلكها اليوم، فقد كانت في ذلك الوقت مجرد موظفة نشيطة في مديرية الخدمات الفنيّة بمدينة إدلب.

تستذكر “يمامة” السنوات الخمس عشرة من وظيفتها السابقة في الدولة قائلة: “بعد تخرجي من المعهد الهندسي تم تعييني في الخدمات الفنيّة في إدلب لأعمل حينها على مشاريع متعددة ومختلفة، لكن رغبتي الدائمة في تطوير ذاتي دفعتني للالتحاق بدورات متعددة في اللغة الإنكليزية وبرامج الكمبيوتر التخصصية، وهو ما حسّن نوعية عملي خلال السنوات الأخيرة من الوظيفة. وبما أن زوجي كان موظفاً أيضاً فقد كانت حياتنا مستقرة نوعاً ما، مادياً واجتماعياً”.

 

تحدّي الظروف

مع بداية الثورة السورية عام 2011، أصرّت “يمامة” على متابعة عملها رغم الصعوبات التي كانت تلاقيها نتيجة الأوضاع الأمنيّة السيئة التي عمّت كل المناطق الثائرة، ومنها إدلب، لكن حياتها انقلبت رأساً على عقب بُعيد تحرير إدلب في نهاية شهر آذار 2015. وعن تلك الأيام الصعبة تتحدث “يمامة” بعد تنهيدة طويلة وحارّة: “كانت تلك الفترة من أصعب الفترات على سكان مدينة إدلب، فبالرغم من الفرح الكبير بتحرير المدينة بشكل كامل من قبضة النظام، إلا أن ما تلقّته المنطقة بأكملها من قصف كثيف ومتواصل أجبر معظم السكان على النزوح من بيوتهم، وهو ما أُجبرت عليه أيضاً، فقد نزحت مع عائلتي إلى قرية إحسم في جبل الزاوية، وهناك لم تكن الأمور أفضل مما كانت عليه في إدلب، فقد كان القصف بنفس الشدة والكثافة”.

تتابع “يمامة” بحزن: “دخلتُ حينها في حالة نفسية سيئة للغاية نتيجة الأوضاع العامة الصعبة، والتي زاد من صعوبتها تركي لعملي وانقطاع مصدر الرزق، وهو ما جعلنا نمرّ بمراحل من الفقر والحاجة والإحباط”.

هنا، تتغير نبرة صوت “يمامة” لتعكس القوة الداخلية التي امتلكتها في ذلك الوقت وغيّرت من نفسيتها واتّجاه حياتها من جديد: “لستُ ممّن يركنون للعجز ويرضخون لليأس، لذلك التجأت في تلك المرحلة إلى دراسة القرآن وحفظه، وهو ما أعاد لي الهمة على متابعة حياتي، وقد قررت، بعد أن شهدت مجزرة السوق المروّعة في إحسم، العودة إلى بيتي في إدلب وتحدّي الخوف عن طريق مواصلة حياتي والبحث عن بدايات جديدة، كانت أولها دراستي في “جامعة الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة” عن طريق الإنترنت، وكذلك حصولي على إجازات عديدة في العديد من الكتب الدينية عن طريق الإنترنت أيضاً. بعد ذلك شاركتُ في عدة دورات أقامتها المنظمات التي تعمل على تمكين المرأة في مدينة إدلب المحررة، ومنها دورات في الخرائط الذهنية والقراءة والتنمية البشرية وأنماط الشخصيات، وقد ساعدتني تلك الورشات على فهم شخصيتي وتطويرها وترميم ما تأذى منها خلال المراحل السابقة. لكن ما تسبب بنقلة نوعية فعلاً كان اتباعي لدورة ناشطات إعلاميات في الداخل السوري، نظّمتها منظمة فرنسية في المركز الصحافي السوري. تلك كانت الخطوة الأولى في طريقي الجديد الذي أوقن اليوم أنني سأجد نفسي فيه وأصنع من خلاله مراحل حياتي القادمة”.

فرصة وحيدة

لقد كانت الصحافة مفتاح باب الحياة الجديدة لـ “يمامة أسعد” التي تعمل حالياً كصحفية وتتابع دراستها الأكاديمية في المعهد التقاني للإعلام، وتصرّ دائماً على اتباع كل ما يمكن أن يطوّر خبراتها ومعارفها، لتمثّل نموذجاً ناجحاً لتحدي الظروف السيئة والإصرار على متابعة التعليم، وهو ما ساعدها عليه بالطبع وجود زوج داعم وعائلة مساندة ومشجعة.

أما “نور عبدالله” (اسم مستعار بناء على طلب صاحبته) فقد واجهت صعوبات مختلفة لم تعرفها “يمامة أسعد”، وذلك لكونها يتيمة الأب وتحت وصاية عمها “المجاهد” في إحدى الفصائل العاملة في إدلب.

في 2011، كانت نور (27 سنة) طالبة في السنة الثانية في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة حلب، وقد بدأت معاناتها بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة، حيث منعتها الطروف الأمنية من متابعة الدوام في الجامعة، ثم جاء موت والدها على إحدى جبهات إدلب كضربة قاضية لمستقبلها.

تتحدث “نور” بغصّة كبيرة تنعكس على ملامح وجهها الذي يحمل بحزنه تفاصيل معاناتها: “لقد كنتُ متفائلة مثل الكثيرين بأن الأمر لن يطول وسأعود إلى جامعتي عندما يسقط نظام الأسد وتعود الحياة إلى طبيعتها، لكنني بدأت اليوم أفقد الأمل بأي جديد بالرغم من تحرر إدلب، ذلك أن وفاة والدي جعلت عمي وصيّاً علينا أنا وأمي، وهو اليوم أحد المجاهدين الذين يقفون ضد حقوق النساء في التعليم والعمل”.

تتابع نور بلهجة أقل يأساً: “لقد استطعت بصعوبة بالغة إقناعه بأن أنتسب لإحدى الدورات المهنية التي تقيمها بعض المنظّمات المهتمّة بالنساء في إدلب، وقد كانت فرصتي الوحيدة في مركز “رابطة المرأة المتعلّمة” وهو مركز نسائي بالكامل. وجود هذا المكان أعطاني الفرصة الوحيدة للتنفّس وتعلّم ما قد يفيدني في المستقبل. الأمور في إدلب ليست على ما يرام، وهناك الكثير من النساء اللواتي حُرمن من حقوقهن في التعليم والعمل نتيجة الضغوط الاجتماعية الكبيرة وانتشار الأفكار المتطرفة لدى شريحة كبيرة من المجتمع هنا”.

ومثلما تمثّل “يمامة أسعد” شريحة من نساء إدلب اليوم، تعكس حالة نور العبدالله وضع شريحة أخرى تقبع تحت نير التطرّف والتشدد، والذي، بحسب نور، ينتشر بين “المجاهدين” في بعض الفصائل العاملة في المدينة والتي رفضت نور تسميتها بالاسم، كما يتسبب في بعض الأحيان بمضايقات تصل حد التهديد بالإغلاق للعديد من المنظّمات والجمعيّات المهتمة بتمكين وتوعية النساء.

 

دورات التأهيل في ازدياد

من جهة أخرى، تحدّثت السيدة “نيرمين خليفة” مديرة “رابطة المرأة المتعلّمة”، عن العديد من المعوقات التي تقف في طريق تمكين النساء وتعليمهن، ومنها “الوضع الأمني في المراحل الأولى من الثورة والذي منع العديد من الأهالي من إرسال بناتهن إلى الجامعات التابعة للنظام أو حتى المدارس أحياناً، وهو ما تغيّر منذ ثلاث سنوات تقريباً بعد تحرير إدلب، حيث يقوم بعض “الأشخاص” غير المحسوبين على جهة معينة، والموجودين في الوقت ذاته في كل الجهات، بالوقوف ضد تعليم النساء أو توعيتهن في كافة المجالات، لكن هذه الحالة لا تشكّل ظاهرة منتشرة اليوم”.

وفي المقابل، تصرّ السيدة “خليفة” على أن “نِسَب التحاق الفتيات بالجامعات أو بدورات التأهيل والتمكين المهني والتعليمي قد ازدادت في السنة الأخيرة بشكل ملحوظ عن مثيلاتها في السنتين التابعتين للتحرير، وهو ما ينطبق أيضاً على مركزنا”.

يعمل مركز “رابطة المرأة المتعلّمة” في إدلب على التعليم النظامي ودورات التقوية بشكل مجاني، في محاولة لتخفيف العبء المادي الكبير الذي يتطلبه التعليم اليوم بكل مراحله في محافظة إدلب.

وبحسب السيدة “نيرمين خليفة” فإن “أغلب المنظّمات العاملة في إدلب تتجه اليوم لتكون منظمات نسائية بكوادر نسائية في معظمها باستثناء بعض المدرّسين المختصين، وذلك لأن مجتمع المدينة المحافظ يفضّل اليوم إرسال بناته إلى مراكز نسائية كهذه”.

تتّجه النساء المهتمّات في إدلب إلى تطوير مهاراتهن في اللغة الإنكليزية والكمبيوتر والإعلام، لكن رابطة المرأة المتعلمة، بحسب السيدة خليفة “تشجع، إضافة إلى التعليم النظامي والمهني، العمل على المشاريع الصغيرة، وهي موجهة إلى النساء الأرامل اللواتي لا تسمح أعمارهن أو ظروفهن بالتعليم الأكاديمي، حيث تعمل الرابطة مع بعض المنظمات على إدماجهن في مشاريع تنموية وتقديم بعض المشاريع الصغيرة التي تناسبهن”.

وتختم “خليفة” حديثها بالتطرّق لنوع آخر من الصعوبات وهو “تقبّل المجتمع بشكل عام لدخول المرأة في مجال التعليم، كونها مهنة مناسبة للنساء بحسب اعتقادات المجتمع، مقابل وقوفهم ضد أنواع أخرى من تأهيل النساء، كالتأهيل الحقوقي أو التمكين السياسي”.

 

تمّ انتاج هذه القصة الصحفية بدعم من منظمة “صحفيون من أجل حقوق الإنسان” الكندية (جي اتش ار).
%d