أكتوبر 28, 2019 syr data

مرضى الغوطة الشرقيّة وحكايا الموت المؤجّل

صدى الشام _ أحمد حاج حمدو

“الموت أرحم مما نحن فيه” جملة يكررها العديد من المرضى في الغوطة الشرقية، حيث أصبح الموت حدثاً يومياً اعتيادياً تفننت الحياة بتقديمه لهم بطرق جديدة كل مرة.

علاء الغوطاني (اسم مستعار لرفض صاحبه ذكر الاسم الحقيقي)، خمسيني من بلدة كفر بطنا في الغوطة الشرقيّة، وأب لأربعة أطفال لا يتجاوز عمر أكبرهم عشر سنوات. عمِل لسنوات طويلة في بيع الخضار على عربته المتنقلة، والتي كانت “معيله الوحيد” على حد تعبيره.

منذ ما يقارب السنتين، أصيب الغوطاني باللوكيميا (سرطان الدم) وبدأت رحلة علاجه المُرّة التي تتطلب الوصول إلى مراكز الطب النووي في العاصمة دمشق، وهو ما كان يكلفه الكثير من المال لمجرد الانتقال وقطع الكيلومترات الستة التي تفصل بلدته عن دمشق، عبر الأنفاق السرية الواصلة بين الغوطة الشرقية والعاصمة.

أيار الأسوَد

بدأ الرجل، الذي بدا هرماً وكأنه جاوز الثمانين، كلامه بالحديث عن تلك المرحلة وكأنه يتحدّث عن رفاهية لم يعد يملكها: “لم يكن الأمر سهلاً أبداً، لكنه على الأقل كان متاحاً، فقد كانت الأنفاق تشكّل شرياناً حقيقياً يُدخل للغوطة ما تحتاجه، بما فيه المواد التموينية والخضار فأحصل على جزء منها وأبيعه على عربتي، كما يُؤمّن لمرضى السرطان، أمثالي، أو للمصابين بأمراض أخرى، طريقاً للعلاج في دمشق. لكن كل ذلك تغيّر بعد شهر أيار الأسود”.

وسيطرت قوات النظام في أيار 2017 على حيي القابون وبرزة وهو ما أدى إلى إغلاق الأنفاق وحرمان سكان الغوطة، الذين يقارب عددهم 400 ألف نسمة بين سكان أصليين ونازحين، من المتنفس الوحيد للحياة، وهو ما حوّلهم جميعاً إلى محاصرين بشكل تام ومعتقلين في سجن مفتوح لا يؤمن لهم أدنى متطلبات الحياة.

يتابع الغوطاني حديثه وقد تغيرت ملامح وجهه لتعكس حالة العجز التي يعيشها وأسرته منذ أشهر: “مع إغلاق الأنفاق توقفت الحياة تماماً بالنسبة لي؛ توقف عملي البسيط نهائياً نتيجة الارتفاع الجنوني في أسعار المواد في المرحلة الأولى ثم غيابها تماماً لاحقاً، وبالتالي باتت عائلتي بلا أي مصدر دخل، خاصة وأن وضعي الصحي تدهور كلياً ولم أعد أقوى على حمل جسدي الضعيف بالرغم من محاولات المركز المختص بالأورام علاجي بإمكانياتهم البسيطة ضمن حالة الحصار. لقد أصبحتُ عالة على عائلتي وأطفالي الأربعة، وبتنا جميعاً عاجزين ولا حيلة لنا إلا الدعاء بالفرج”.

مع إغلاق المعابر، المصدر الوحيد للأغذية والأدوية، بدأت الحياة تقسو بشكل مريع على سكان الغوطة الذين حاولوا المقاومة خلال الأشهر الأولى بما كانوا قد ادخروه من مؤونة أو أموال، وبما تملكه المشافي والمراكز الطبية من كميات قليلة من الأدوية ومستلزمات العلاج، لكنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم ضحايا للفاقة والعوز في كل مناحي الحياة، والتي يعتبر المرض أثقلها على الجميع.

خلال الأشهر الماضية بدأت مشافي الغوطة ومراكزها الصحية تعاني من نقص هائل في الأدوية والمستلزمات الطبية، ولم تُدخل قوافل الإغاثة المعدودة ما يكفي حاجاتها لأيام، مع استمرار القصف الهمجي على المنطقة ورفض قوات النظام المتكرر إجلاء المرضى ذوي الإصابات الخاصة والأمراض المستعصية، ومنهم مصابو السرطان بأنواعه المختلفة. وهو ما أدى إلى تدهور حالة الغوطاني وغيره من المرضى لعدم توفّر العلاج المناسب لهم.

وحول ذلك، يقول الغوطاني بيديه الراجفتين وصوته المتعب المتقطع: “منذ أشهر لم أتلقَ العلاج. كل ما يستطيعون فعله في المركز الطبي هو حقني بالدم بين فترة وأخرى، وفي كل مرة أبقى غائباً عن الوعي لعدة أيام، أستفيق بعدها عاجزاً عن تحمل الألم وعن ممارسة أي نشاط كان. حاولت مراراً عن طريق المنظمات الطبية أن أطلب إجلائي إلى دمشق لكن سلطات الأسد لم تسمح بذلك”.

وبحسب سجلات مركز “دار الرحمة الطبي لعلاج الدم والأورام”، وهو المركز الوحيد المختص بأمراض الأورام في الغوطة الشرقية، يبلغ عدد مرضى السرطان في الغوطة الشرقية حوالي 1200 مريض منهم أكثر من 550 حالة حرجة مهددة بالموت، يتوزع معظمهم “على طرفي العمر، أي الأطفال تحت 15 عاماً والكبار فوق الستين”، بحسب الطبيبة وسام محمد، مديرة المركز، والتي تؤكّد أن “سوء التغذية الذي يعاني منه المرضى هو الطامة الكبرى بعد نقص الدواء، الذي لم يبقَ منه أكثر من 3% من العقاقير اللازمة لعلاج هذه الحالات، ولا يمكن إنتاج أي تركيب علاجي من هذه الأدوية التي بقيت موجودة حتى الآن”. وتلفت الطبيبة محمد إلى “الدور السلبي الكبير الذي تلعبه الحالة النفسيّة للمرضى، وخاصة عندما يترافق مع سوء التغذيّة. حيث أن الإصابة بالمرض تتسبب بحالة من الوهن العام وهو ما يُضعف تحمّل المريض لتبعات سوء التغذية، كما يُضعف أيضاً تحمله للعلاج، في حال وجوده، ما يؤثّر سلباً على حالتهم النفسية، التي بدورها تفاقم المشكلة وتزيد في ضعفهم”.

تزايد حالات اللوكيميا

وبحسب إحصائيات مركز “دار الرحمة الطبي لعلاج الدم والأورام” والدكتورة محمد، فإن “حالات اللوكيميا بأنواعها شهدت تزايداً ملحوظاً خلال السنوات الماضية، وبشكل خاص في المناطق المتاخمة للعاصمة دمشق، مثل زملكا وعين ترما وجوبر، حيث كانت الإصابة لدى المرضى القادمين من هذه المناطق حادة جداً وسريعة التدهور”. وهو ما يمكن تفسيره أيضاً بـ”التأثير السيء للمواد الكيمياوية..الموجود في الأسلحة المستخدمة في القصف على هذه المناطق كما في مخلفات الحرب، والتي تؤثّر بشكل خاص على إصابات اللوكيميا وأورام اللمفاويات”.

وبما أن حماية المدنيين المحاصرين أو المتضررين بسبب النزاعات المسلحة هو الدور الأول للصليب الأحمر الدولي في كل أنحاء العالم، فقد حاولنا التواصل مع منظمة الصليب الأحمر عبر الإيميل لسؤالهم عن أسباب عجز كوادرهم عن مساعدة أهالي الغوطة الشرقية المحاصرين منذ سنوات، حيث يموت المئات منهم من سوء التغذية او شح المستلزمات الطبية التي قد تنقذ حياة مريض، خاصة مع وجود أكثر من 500 مريض سرطان في الغوطة الشرقيّة، ولمن يحملّون رسميا مسؤولية حياة هؤلاء نتيجة بعد عرقلة إجلائهم. لكننا لم نتلقَ أي رد من أي نوع.

يعاني الغوطاني اليوم مع كل نفَسٍ يخرج من صدره المتعب وقد فارقه الأمل بأن يحصل على أبسط حقوقه في الحياة؛ العلاج والطعام له ولأسرته، وبأن يدرك العالم خارج جدار السجن الكبير الذي يُدعى “الغوطة الشرقية” حجم الكارثة التي تنتظر سكان هذه البقعة المنسية وينقذوهم منها قبل أن يحصدهم الموت المؤجل الذي صار أمنية للكثيرين هناك.

تمّ انتاج هذه القصة الصحفية بدعم من منظمة “صحفيون من أجل حقوق الإنسان” الكندية (جي اتش ار).

اكتشاف المزيد من بيانات سورية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading