انقضت أشهر ستة على الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، ولا زالت عائلات سورية فقدت معيلها تعاني تبعاته بشدة، خاصة الناجيات اللواتي فقدن أحبائهن وأجبرن على البقاء في المدن التي دمرها الزلزال وتحمل الضغوطات المادية والاجتماعية والآلام النفسية.
من بين هذه الحالات اللاجئة السورية نسرين ابنة مدينة معرة النعمان في ريف إدلب والمقيمة في كهرمان مرعش منذ ستة سنوات، والتي التقتها منصة عين في زيارة لمخيم ضم متضرري الزلزال في كهرمان مرعش.
فقدت نسرين 16 شخصا من عائلتها دفعة واحدة بينهم والدها ووالدتها وإخوتها الاثنين واختها الصغرى وثمانية من أبناء أشقائها، بالإضافة إلى 16 شخصا آخر من أقاربها.
وفي خيمة وحيدة تابعة لأحد المخيمات الموجودة في الحديقة العامة لمدينة كهرمان مرعش، تعيش نسرين لوحدها مع من تبقى من أولادها وأولاد إخوتها الذين أصبحوا أيتام الأم والأب، تعاني الفقد والوحدة وتجاهد للبقاء قوية أمام الأطفال.
كنت سعيدة!
تقول نسرين في حديثها لمنصة عين، “قبل الزلزال بيوم واحد كنت أطير من السعادة، فعائلتي بجانبي، وكنت أتممت التجهيزات لخطوبة إبنى التي حددناها في اليوم التالي، أي في اليوم نفسه الذي حدث فيه الزلزال، واليوم أشعر أنني مكسورة الجناح، وفقدت الأمل بكل شيء”.
تتحسر نسرين على انقلاب حالها رأسا على عقب، من قمة السعادة الى قمة التعاسة، كنت سعيدة بخطوبة ابني الأكبر وكنت أجد في إخوتي السند والدعم منذ وفاة زوجي قبل 12 عاما.
وتضيف، “تحملت الكثير من الذل والإهانات حتى وصلت إلى النجاح في عملي، واليوم عدت لما تحت الصفر، لا أمل لدي ولا مستقبل، واليوم لا يستطيع أحد أن يعوض أي شيء علي، ولا يمكن استعادة الروح”.
ليلة الزلزال
عند الساعة 4:18 من يوم السادس من شباط 2023، توقفت ساعات الحائط في مدينة كهرمان مرعش عن العمل، لفترة وصلت إلى 180 ثانية، زلزلت الأرض تحت المدينة، وتوقفت الحياة بعدها، وتعالت أصوات الصراخ في المدينة، وفقد الكثير من سكانها والسوريين اللاجئين فيها أحباءهم، وعاشوا في المخيمات بانتظار إنقاذ عائلاتهم، ومنهم من غادر المدينة بلا عودة بعد أن خسر كل شيء، ومنهم من عاد اليوم متفائلاً ببناء حياة جديدة.

اليوم وبعد مرور ستة أشهر على الزلزال، زارت منصة عين كهرمان مرعش، رغبة برؤية وجوه الناس الذين تحدوا كل الصعوبات، وأصروا على العودة والحياة هناك، بعد أن فقدوا أحبتهم وأصبحوا سكانا للمخيمات في الحدائق العامة وعلى أطراف الطرقات.
وفي المقابل، هناك عدد كبير من المحال التي عاودت العمل، ولكن على شكل بسطات تجارية أمام محالها، وهناك حركة جيدة في الأسواق، على الرغم مما حصل منذ ستة أشهر.
وفي أحد الأسواق الذي يسمى سوق السوريين، عاد السوريون للعمل به، وعاد أصحاب المحال لنشر بضائعهم على البسطات وداخل محالهم، وكأن الناس تريد أن تنسى وتعود لحياتها الطبيعية، بعيدا عن ما حدث.
تصف نسرين ليلة الزلزال الرهيبة بالقول، “نمت تلك الليلة بحماس وفرح وأنا أفكر بخطوبة ابني في اليوم التالي، وعند الساعة الرابعة والثلث، صحيت من النوم وكان أطفالي بجانبي، اعتقدت أنها هزة أرضية مثل أي هزة تحدث عادة، وعندما طال الوقت، بدأ الخوف يتسلل إلى قلوبنا، حاولنا أن نفتح الأبواب فلم نستطع لكونها أقفلت بسبب الهزة، ثم بدأت قوة الزلزال في التصاعد، فسقط المكيف على الأرض والتلفاز، وعدد كبير من ممتلكاتنا الشخصية”.
أردنا الهروب ولم يكن من وسيلة إلا بتكسير زجاج النافذة حتى نستطيع الخروج من المنزل، قلت لأطفالي أن يهربوا عن طريق درج البناء، ولم أسأل عن نفسي، لأن الأهم بالنسبة لي كانت نجاتهم”.
وتتابع، “أخبرني طفلي أن الدرج سقط بفعل الزلزال، فبدأنا بتكسير باب جيراننا حتى نهرب عن طريق نافذة منزلهم، ولكنني لا أستطيع تذكر كيفية الخروج”.

اللقاء مع نسرين قبلاوي، مخيم حديقة 15 تموز
وتضيف نسرين، “بعد وصولنا لخارج المنزل شعرنا أن القيامة قامت، وبدأنا نبحث عن البناء الذي كنا نسكنه منذ لحظات فلم نجده، لأنه سقط بالكامل على الأرض فور خروجنا، كما لم يتبق أي بناء من الأبنية المجاورة أيضا”.
وبعد أن اطمأنت على أبنائها، تركتهم في أحد الزوايا وذهبت للبحث عن أخيها الذي يقطن في الطابق الثالت من بناء مجاور، “صرخت بأعلى صوتي ولم أسمع إجابة، فالبناء سقط بكامله عليهم”.
وتتابع، “سمعت صوتا من تحت الأرض يقول “طالعونا”، ظننته أخي ولكنه كان ابن خالي، وكانت الأرض لا زالت تهتز، ذهبنا إلى المسجد في الرابعة والنصف صباحا، وعقلي بقي عند إخوتي وأبي وأمي، كنت أظن إن الزلزال دمر الحي حيث نقطن فقط، ولم أكن حينها أعرف أن المدينة بأكملها دمرت على رؤوس قاطنيها وبينهم أهلي”.
ذهبت نسرين باحثة عن بيت أهلها، لم تستطع الوصول إليه بسهولة، بسبب الدمار الكبير، ووجدت إخوتها الاثنين يبكيان أمام منزل أهلها، “لم أستوعب ما حصل، وبدأت أصرخ وأنادي أمي، التي كانت لحظتها عالقة تحت الركام، ولكنها حية ترزق، وتمكن أخي من فتح طاقة في الركام كي تتنفس”.
بقيت والدة نسرين ثلاثة أيام تحت الركام، ونسرين بجانبها على المقلب الآخر تتحدث إليها، وتعطيها الماء لتشرب بانتظار عملية الإنقاذ، “جاء فريق إماراتي ومعه ضابط، ذهبت إليه وقبلت يديه لينقذ والدتي، فأرسل معي عناصر ولكن عندما وصلنا، وأخبرني أخي أنها توفت قبل وصولنا بعشر دقائق، رأيتهم كيف أخرجوا جثتها وغطوا وجهها، وكان أخي الآخر معها في المكان ذاته، ولكنه توفي قبلها بيوم”.
وتضيف نسرين وهي تبكي بحرقة، “أخرجنا ست جثث من هناك، وأخرجنا أختي ابنة الرابعة عشرة وهي على قيد الحياة، ولكن عند وصولنا لباب المشفى توفيت، أما أخي الثالث فبقي ثلاثة أيام يضرب على الحائط كإشارة منه أنه على قيد الحياة، ولكنه توفي تحت الأنقاض”.
وعن وفاة والدها تقول، “كان أبي يخاف بشكل دائم من الزلازل، وكان يخبرنا بشكل دائم أنه يتخوف من أن يموت بزلزال، ووجدنا جثته وهو ممسك بالقرآن الكريم، وبحسب رواية إخوتي، بلحظة الزلزال كان على باب المنزل يرغب بالخروج، ووقع جسر باب المنزل على ظهره، وانفجر قلبه للخارج لأن لديه صمام في قلبه زرعه له الطبيب في عملية أجراها سابقا”.
تم جمع جثث العائلة التي وصل عددها إلى 16 جثة، وكذلك باقي أقربائها، وأصبح عددهم 32 جنازة، تم دفنهم في مقبرة قريبة من مرعش خاصة بضحايا الزلزال، ولا زالت نسرين تزور قبورهم بشكل متكرر.
محاولة الصمود والتعافي
وعلى الرغم من حزن نسرين الشديد وبكائها أثناء لقائنا بها، إلا أنها لا تستطيع إخفاء البسمة عن وجهها أثناء حديثها مع أولادها وحديثها مع معارفها داخل المخيم، فهي تحاول أن تبدو طبيعية أمام الجميع، كي لا يتأثر أحد بها وخاصة أطفالها.
توضح نسرين أنها خلال أول 15 يوم من وقوع الكارثة، نسيت الأكل والحمام وتغيير الملابس لها ولأطفالها، وكان كل تفكيرها في أقربائها وعائلتها، ولا زالت حتى الآن تذهب كل عشرة أيام إلى منزل صديقتها للاغتسال.
وتختم نسرين حديثها واصفة وضع أطفالها اليوم بأنه أفضل من السابق، ولكنها لا زالت تعاني ولا تستطيع نسيان مأساتها أبدا.
أعود لحياتي الطبيعية
على الجانب الآخر، وفي منطقة نورداغ التابعة لولاية غازي عنتاب في الجنوب التركي، فقدت بيان المصلح والديها يوم الزلزال، وبقيت وحيدة بدون عائلتها الصغيرة.
بيان ابنة ال 18 عاما، تعيش اليوم مع جدها في مدينة غازي عنتاب، وبدأت تعود لحياتها الطبيعية بعد بداية استقرارها مع جدها، ولكنها لا تزال تعاني الخوف من الهزات الارتدادية التي لا زالت تحدث كل مدة، وتحزن كلما تذكرت يوم السادس من شباط لحظة وقوع الزلزال، إذ كانت بيان في غرفتها ولم تر أبويها منذ ذلك اليوم، حتى انتشالهم من تحت الأنقاض بعد ثلاثة أيام من الزلزال، بينما تم انتشالها هي في أول يوم وهي على قيد الحياة.
وتقول بيان في حديثها مع منصة عين، “وجود جدي بجانبي كان أفضل شيء ساعدني في الحصول على الراحة النفسية، لا أملك أحدا اليوم إلا هو، فقدت عددا كبيرا من أولاد حارتي، وكذلك أهلي، لا أستطيع نسيان ذلك اليوم، ولكنني أحاول الخروج إلى معهد دراسة اللغة التركية كل يوم كي أنسى ما حصل”.
وضع الناجين
يقول محمد عجوم مدير التواصل في منظمة أوسوم أن مدة التعافي تختلف من شخص لآخر، حسب شدة الاضطراب وحسب مستوى المرونة وموارد الشخص المتاحة، وتتراوح عادة مدة التعافي وسطياً من ثلاثة أشهر إلى سنة.
ويبين عجوم أن زلزال السادس من شباط والهزات الارتدادية التي تلته تسبب في دمار كارثي، حيث تأثر ما يقارب 9.1 مليون شخص على الأقل بشكل مباشر، وفقد ما يقرب من 50000 شخص حياتهم (45500 في تركيا، 4500 في سوريا).
ويضيف عجوم أنه وبحسب إدارة الكوارث والطوارئ التركية، لجأ آلاف الأشخاص إلى ملاجئ مؤقتة في جميع أنحاء تركيا، بما في ذلك المدارس والمساجد وغيرها من الملاجئ المؤقتة التي خصصتها الحكومة.
ويعيش في الولايات العشر التي تأثرت بالزلزال ما يقارب 1.74 مليون لاجئ سوري غالبيتهم العظمى تحت الحماية المؤقتة.
ارتفاع أعداد المعوقين
يقول عجوم اً إنه قبل الزلزال، ووفقاً لهيئة الإحصاء التركية، كان ما يقدر بنحو 7.9 % من الإناث و5.9 % من الذكور في تركيا يعانون من إعاقات.
ويضيف، “ارتفع هذا الرقم بشكل كبير في أعقاب الكارثة وقد يكون أقرب إلى المتوسط العالمي البالغ 15%”.
كذلك هناك حوالي 8 % من 3.3 مليون أسرة تعيش في الولايات العشر التي تم إعلان حالة الطوارئ فيها هي أسر تعيلها نساء ولديها طفل واحد على الأقل، في حين أن 7 % من السكان في الولايات العشر المتضررة تبلغ أعمارهم 65 سنة أو أكثر و55 % من كبار السن هنّ نساء.
وفقاً للاستبيان الذي أجراه اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية (أوسوم) في كل من هاتاي، غازي عنتاب، كيليس، وكهرمان مرعش، أظهرت الغالبية العظمى من المستجيبين علامات رئيسية للاكتئاب والقلق، مثل الحزن ومشاكل النوم والأكل، الوهن غير المبرر والقلق المفرط.
كما أفاد نصف المستجيبين تقريبًا أنهم يعانون من أمراض مزمنة (خاصة ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية)، وأنّ 50٪ فقط قالوا إنهم يحصلون على الأدوية الضرورية، ويرجع ذلك في الغالب إلى نقص الدخل.
كما رصد الاستبيان التغيير السلوكي بعد الزلزال لدى الأطفال، مع ظهور أعراض مثل الخوف المفرط، البكاء المفرط، العنف، الهياج، والوهن المزمن.
علاوة على ذلك، كانت الأسر التي تقودها النساء والأطفال غير المصحوبين بذويهم أمام مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي والاستغلال، والتعرض لآليات التكيف السلبية، مصدر قلق حقيقي حتى قبل زلزال شباط.
وتفاقمت هذه المشكلات الآن خاصة بسبب الصدمات، فقدان سبل العيش، زيادة النزوح، واكتظاظ المراكز الجماعية التي لا تتمتع بخصوصية تذكر أو لا تتمتع بخصوصية على الإطلاق.
أهمية الدعم النفسي
يبين عجوم أنه وكما هو المعتاد في معظم حالات الكوارث والطوارئ تقتصر المساعدات الإنسانية للمتضررين على الاحتياجات الأساسية مثل المأوى، الغذاء والماء، والرعاية الصحية والتي يجب أن تضمن أيضاً دعم البرامج المتكاملة متعددة القطاعات التي يمكن أن تلبي الاحتياجات طويلة الأمد لا سيما فيما يتعلق بالصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي.
وبناء عليه واستجابة للحاجة الملحة لخدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي لمساعدة المتضررين، من كلا المجتمعين المضيف واللاجئ، على التعافي وتعزيز المرونة النفسية وآليات التكيف الإيجابي، بادر اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية (أوسوم) إلى المساهمة في إنشاء ثلاثة فرق صحة نفسية ودعم نفسي اجتماعي جوالة في كل من هاتاي، غازي عنتاب، وكهرمان مرعش، تضم طبيب نفسي وأخصائيين نفسيين وعمال حالة.
وشملت الخدمات تقييم وتشخيص الحالات الفردية من قبل الطبيب النفسي للمتضررين الذين تظهر عليهم علامات وأعراض اضطرابات نفسية على سبيل المثال لا الحصر: الاكتئاب، القلق، اضطراب الكرب ما بعد الصدمة …..إلخ، وإحالة الأشخاص الذين هم بحاجة لتدخلات دوائية نفسية إلى المشافي الحكومية، بالإضافة إلى التدخلات العلاجية النفسية غير الدوائية من قبل الأخصائيين النفسيين، وجلسات التثقيف النفسي للمستفيدين وذويهم، وكذلك جلسات التوعية الجماعية لأفراد المجتمع على مواضيع تتعلق بالصحة النفسية.
كذلك تم تيسير جلسات العون النفسي الأولي لأفراد المجتمع المتضررين من الزلزال.
وبلغ عدد المستفيدين الإجمالي من خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي من بداية المشروع في آذار حتى الآن 2676 مستفيد (65% منهم نساء): 722 في غازي عنتاب، 1212 في هاتاي، 742 في كرمان مرعش، منهم 54 حالة لديها اضطراب القلق المعمم، 34 حالة اكتئاب، 23 حالة وسواس قهري، 30 حالة اضطراب الكرب ما بعد الصدمة.
الناجون وحقوق الإنسان
يترتب على المنظمات والجمعيات المعنية متابعة حالة الناجيات والناجين من الزلزال خاصة النساء والأطفال فيما يتوافق مع بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتنص المادة 25 من هذا الإعلان على أنه لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحق فيما يأمن به الغوائل في حالات البطالة، أو المرض، أو العجز، أو الترمل، أو الشيخوخة، أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه.
وللأمومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصتين، ولجميع الأطفال حق التمتع بذات الحماية الاجتماعية سواء ولدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.
“تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من “JHR” صحفيون من أجل حقوق الإنسان”.