استمرت موجات هجرة السوريين الكبيرة إلى تركيا على مدار 5 سنوات كان آخرها عام 2018 وهو عام التهجير القسري من 5 مناطق سورية، تعرض فيها السوريون لمختلف أنواع القصف الذي خلف مئات آلاف الإصابات وحالات فقدان الأطراف، وكان من بين أسباب هجرة السوريين من ذوي إصابات الحرب الأمل بالعلاج أو الحصول على أطراف صناعية أو دعم يسد رمقهم، وهذا ما لم يجدوه بشكل مثالي، ومن ثم تناقص الدعم المقدم لهم خاصة المتعلق بتقديم الأطراف الصناعية، وهذا انعكس على نمط حياتهم وخياراتهم في العمل ورعاية أسرهم.
وبحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، يعيش في تركيا 450 ألف لاجئ من ذوي الاحتياجات الخاصة، أي أن عائلة من كل 10 عائلات لديها فرد من ذوي الإعاقة. في حين لا توجد إحصائيات دقيقة ومفصلة عن توزع هذا العدد الكبير على مستوى الجنس والفئات العمرية.
لا تنتهي الجريمة عند سقوط البرميل المتفجر أو القذيفة، فالشظايا وجروحها ترسم حياة قاسية جديدة لحامليها، وتحمّلهم عبئاً مضاعفاً، فرحلة العلاج وآلامها طويلة وخيارات الدعم محدودة جداً واحتمالات الحصول على طرف صناعي في حال تسببت الإصابة ببتر أو فقدان طرف تكاد تكون معدومة، وهكذا تتراكم المعاناة على مستويات إعالة الأسرة والعمل والصحة الجسدية والنفسية، ويصبح مصاب الحرب أحد أكثر الفئات ضعفاً. وفي الحديث عن السيدات المصابات، فإن المأساة المستمرة تطول العائلة بأسرها، وتتضاعف عندما تكون السيدة المصابة قد فقدت زوجها في الحرب.
لا بد من الإشارة إلى أنه خلال إعداد هذا التقرير، لمسنا أن اليأس ضرب عميقاً في نفوس مصابي الحرب السوريين في تركيا، فترددت عبارة “لن ينفع الحديث عنا شيئاً .. لا أحد يهتم.. مللنا من الطلب والاستجداء”. إلا أن البعض ما زال يحذوه أمل بحدوث تغيير في مسار الدعم والمساعدة المقدمة لمصابي الحرب، فتحدثت نجاح جاويش وسيدات أخريات لموقع تلفزيون سوريا عن واقعهن ورحلة البحث عن مساعدة على مدار سنوات.
شظية برميل دمّرت مستقبل عائلة كاملة
تبدأ حكاية نجاح في نهاية عام 2016 بمدينة حلب المحاصرة، عندما قررت الذهاب من حي بستان القصر إلى حي الشعار لشراء بعض الطعام بعد أن سمعت بوجود طعام معروض للبيع في الحي البعيد عنها، ولم تجد نداءات أطفالها الأربعة للبقاء في المنزل، فالمدينة كانت تمطرها قوات النظام بكل أنواع القصف. انفجر البرميل بين السيارات وعندما همت نجاح بالخروج من الحافلة للركض بعيداً عن الأشلاء المتناثرة، شعرت في هذه اللحظة أنها عاجزة. فقدت نجاح رجلها التي قطعتها شظية كبيرة، وأسعفت إلى مستشفى ميداني لإنقاذ رجلها الثانية التي فقدت جزءاً من لحمها وتعرضت لكسرين.
تعيش نجاح الآن في مدينة إسطنبول، لتستلم في النهاية بعد أن فشلت في الحصول على دعم أو طرف صناعي أو إعادة توطين في بلد ثالث.
تقول نجاح إنها قدمت ملفها لـ “جمعية التضامن مع طالبي اللجوء والمهاجرين – ASAM” والتي حولتها بدورها إلى مستشفى في أنقرة، وهناك كانت الصدمة الأولى عندما تعرضت نجاح للعنصرية والسخرية من إصابتها من الكوادر الطبية.
لم تعرف نجاح ماذا يمكن أن تفعله للحصول على مساعدة، ثم التقت بأحد المصابين الذي يعاني من بتر يد، فأخبرها بالتوجه إلى “هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات – IHH”، وهو ما حدث، لتحولها الهيئة بدورها إلى مركز تركيب أطراف، لكن النهاية المأمولة لدى نجاح لم تتحقق، فالبتر في رجلها تم في منتصف منطقة الركبة، وهذا ما يعيق تركيب طرف مناسب.
طرقت نجاح باب دائرة الهجرة التركية طلباً للجوء إلى بلد ثالث عبر آلية إعادة التوطين، لكن الموظفين أبلغوها أن هذا الخيار غير متاح للسوريين في تركيا.
لم تحدثنا نجاح عن معاناتها بقدر ما كان يؤلمها ما آلت إليه أسرتها، فابنها البالغ الآن 17 عاماً اضطر لترك المدرسة والعمل في الخياطة لإعالة أسرته.
تقول نجاح: “أتمنى لو أنني تمكنت من تعليم أبنائي وتغيير حياتهم. ابني كان من الطلاب المجدين في المدرسة، وتوجه للعمل”.
بعد 7 سنوات.. دخلت الطفلة المدرسة دون طرف صناعي
كما تروي سوسن الخطيب (اسم مستعار) لموقع تلفزيون سوريا معاناتها مع إصابة الحرب، فقبل 7 سنوات وعندما كانت سوسن حاملاً بطفلها، تسبب قصف لقوات النظام على حي الصالحين بمدينة حلب بتهشّم رجليها بالكامل ومقتل طفلتها ذات الـ 7 سنوات، وبتر رجل طفلتها الرضيعة ذات العام الواحد. وأسعفت سوسن إلى مستشفى الهلال الأزرق في مدينة كلس التركية وبقيت فيه عاماً كاملاً خضعت فيه للكثير من العمليات الجراحية وترميم العظام وترقيع الجلد والعلاج الفيزيائي.
تقول سوسن التي تعيش في مدينة غازي عنتاب التركية: لا يوجد لدي أمل بالحصول على مساعدة لي، لكنني أسعى جاهدة لتركيب طرف لابنتي التي أصبح عمرها الآن 7 سنوات ودخلت المدرسة برجل واحدة، وعندما أملت سوسن بطرف صناعي لطفلتها من مركز “خطوة بخطوة”، ضربت جائحة كورونا، ثم عادت الحياة بعد عامين ولكن الدعم توقف عن المركز.
وأوضحت سوسن أن كلفة تركيب طرف صناعي في المراكز الخاصة تتراح بين 5 و 10 آلاف دولار، وتقول: “ما معي منهن دولار واحد”.
ترفض ابنة سوسن الذهاب للمدرسة بسبب تعرضها لتنمر أثر كثيراً على نفسيتها وثقتها بنفسها، وكما أن الطفلة تستصعب الحركة على العكازات.
تقول سوسن: “لا أستطيع ترتيب منزلي دفعة واحدة، فأرتب غرفة واحدة وأكمل الثانية في اليوم التالي.. فقدت شبابي في عز شبابي. كنت في الـ 23 ومنذ لحظة الإصابة تدمّر مستقبلي. ورغم ذلك أنا أشجع نفسي بنفسي لأكون قوية”.
تقرير الإعاقة.. المساعدة غير الكافية تتطلب نسبة 40%
حاولت سوسن الحصول على عكازات وكرسي متحرك، ولذلك كانت الخطوة الأولى في الحصول على “تقرير إعاقة” من مستشفيات الدولة، إلا أن البيروقراطية المفرطة وكثرة الذهاب والإياب انتهت بتحديد نسبة الإعاقة بـ 30%، وهي دون الحد الرسمي للإعاقة المستحقة للدعم والتي تبلغ الـ 40%، وهذا ما يحرمها أيضاً من الحصول على مساعدة “الهلال الأحمر” وهي منحة مالية مقدمة من المفوضية الأوروبية بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة (WFP)، و”الهلال الأحمر التركي”، ووزارة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية.
قبل 9 أشهر، أي بعد 7 سنوات من الإصابة، حصلت سوسن على “كرت الهلال”، إلا أن 155 ليرة تركية للشخص الواحد شهرياً لا تكفي دفع نصف أجرة المنزل في بلاد بلغت فيها نسبة التضخم أكثر من 80%.
“لا أستطيع حمل أكثر من كيلوغرام واحد”
بعيداً عن حلب، وفي محيط العاصمة دمشق، استهدف قناص من تنظيم “داعش” باسم أم عمر التي كانت حاملة بطفلتها في بلدة يلدا جنوبي دمشق، برصاصتين أحدهما استقرت في بطنها ولم تصل إلى الجنين، وأخرى سببت لباسم تفتتاً في عظم يدها.
بعد شهر وضعت باسم جنينها، لتبدأ رحلة العلاج، فأخرج الأطباء الرصاصة من بطنها، وبعد شهر آخر ركبوا لها صفيحة في يدها مع 7 براغٍ، ثم أجروا لها تطعيم عظم من رجلها ليدها.
تقول باسم لموقع تلفزيون سوريا: “كنت في أسوأ حالة نفسية. لم أستطع حمل طفلتي لإرضاعها، وكنت بحاجة للمساعدة دائماً”.
بعد التهجير القسري من جنوبي دمشق للشمال السوري، وصلت باسم وعائلتها إلى تركيا، وبقيت آثار الإصابة الشديدة. تقول باسم: “تضرر عصب يدي ولم أعد أتحكم بثلاثة أصابع، ولذلك تقع الأشياء من يدي فجأة، وتنتابني نوبات ألم في يدي وتتورّم أحياناً، ولا أستطيع حمل أكثر من كيلوغرام واحد.
أما سبب عدم حصول سوسن على مساعدة، فهو أنها تعيش في ولاية غير الولاية التي حصلت منها على بطاقة الحماية المؤقتة (الكملك)، لأن زوجها انتقل إلى الولاية الجديدة بغرض العمل، وبالتالي تعد العائلة “مخالفة”، بحسب قانون الهجرة التركي، كما أن الولاية التي تعيش فيها حالياً لا يوجد فيها أطباء عرب وباسم لا تتحدث اللغة التركية.
وأشارت باسم إلى أنها تخاف الآن من أمور لم تكن تخاف منها في السابق وأنها حاولت جاهدة الوصول إلى دعم نفسي ولم تجده.