هيومن فويس: سما مسعود
هذه الفتاة اليافعة، أثُقل كاهل شبابها بالحرب، وفي منظمة “مساحة سلام” الداعم لها، تم تصنيف الشابة ضمن فئة اليافعات، بعد طرد والدتها من إحدى المعامل التي تستغل حاجة الفقراء للعمل، لم تجد أي سبيل للإطاحة بكوابيس الحياة القاسية التي تطارد عائلتها، إلا بالبحث عن عمل يسد ما أمكن من الحاجيات، وضناكة العيش.
ولكن إرادة الحياة، لدى هذه الفتاة، ومساعيها للخروج من الحالة المتردية المحاصر لإخوتها الصغار، ارتطمت بحاجز العائلة، لتتعرض للضرب على يد ابناء عمها الذكور، كونها تعمل لساعات طويلة، ولا تعود إلى المنزل إلا في الجزء الأول من الليل، وكأن شدة الحياة لا تكفي، ليزيد أقاربها من بطشهم عليها.
وفي إحدى جلسات الحماية التي تقيمها منظمة “مساحة سلام” لدفع السيدات للعودة نحو حياة شبه طبيعية، وجه سؤال للفتاة اليافعة، عن أمنيتها في الحياة، ولكنها لم تستطع إخفاء الكبت بداخلها، ففاضت عيناها بالدماء وانهارت أمام الحضور، فهي غارقة في بحور الواقع الصعب والعادات القاسية.
وبعد شرح حالتها لإدارة المنظمة، أقدمت الأخيرة على تأمين مساعدة إجتماعية لعائلة الفتاة اليافعة، عوضاً عن العمل الذي كانت تعمل به، وفي ذات الوقت درعاً يحميها من بطش الأقارب وراحة أكفهم التي جارت على الشابة مع الظروف القاسية.
من جانبها، أفادت رشا الخضر مديرة مشروع الحماية في منظمة “مساحة سلام” لدى لقائنا بها “نحن لا نقدم دعماً مادياً وإغاثياً نحن نقدم خدمات حماية فقط”.

إحدى الجلسات التي تقيمها منظمة “مساحة سلام” للفتيات السوريات
وتحدثت بان انتشار جلسات التوعية والحماية بين الفتيات والسيدات ساهمت في إيجاد بيئة آمنة بين المستفيد والمعطي، وهذا ما قالته الخضر وتابعت حديثها بأن العديد من حالات العنف والتحرش إضافة لحالات إنسانية أخرى قد تم معالجتها ضمن جلسات الحماية بعد لجوء المستفيدة للمشرفات المختصات في المنظمة.
عملت المنظمة عبر المشرفات المسؤولات عن جلسات الحماية إلى التدخل في حياة العائلة وتخفيض ساعات عمل الأم إلى النصف، وإعادة الفتاة إلى المدرسة.
“وعليه استطعنا إعادة أهم مستويات الحماية لتلك الفتاة الحلقة الأولى هي الأم والحلقة الثانية في المدرسة” كما شرحت رشا في حديثها.
على الرغم من كثرة الاحتياجات في الشمال السوري وقلة الإمكانات المتاحة، لسد هذه الاحتياجات المتفاقمة في زمن يتصاعد فيه التوتر العسكري والسياسي، بين جميع الأطراف المتصارعة، إلا أن بصيص الأمل سيبقى يقترب من أولئك الضعفاء.
ويؤوي الشمال السوري وفق مصادر حقوقية سورية، المنطقة الأعلى كثافة سكانية في سوريا، وذلك بعد تهجير معارضي نظام الأسد من دمشق وريفها، ودرعا والقنيطرة، إضافة لمهجري حمص، والمدنيين الباحثين عن المناطق الأكثر أمناً، ما يعني أنها البيئة المثالية لتجريب مدى فعالية عمل منظمات المجتمع المدني، كتجربة جديدة في سوريا، بعيداً عن الخدمة المقرونة بالدعم المادي، إذ لا تعمل مثل هذه المنظمات على الجانب الإغاثي، فهي لا تقدم للمستفيدين منها دعماً مادياً.

صناعة الفرح.. عمل لا يقدر بثمن
فبحسب إحصاءات أطلعتنا عليها المديرة التنفيذية لمساحة سلام بلغ عدد المستفيدات من المشاريع التي تقدمها المنظمة بين عامي 2016 و2018 أكثر من 70 ألف مستفيدة “سيدة وفتاة”
وتشمل مساحة العمل “مخيمات الدانا وسرمدا وقام وريف إدلب الغربي والشرقي إضافة لأريحا وريفها وتفتناز وريفها وريفي حلب الشمالي والغربي” كما قالت بيطار في حديثها.
ويعد رقم 70 ألف سيدة جيداً في بيئة محافظة تعاني الحرب وتوقف التعليم، وخاصة أن هناك مشاكل أخرى مثل الزواج المبكر والعادات الاجتماعية إضافة للموروث الثقافي الذي يحد وأحياناً يمنع حركة المرأة.
من جانبه، لم يقف فريق فريق “هيومن فويس” عند هذا الحد، بل توجه إلى الفئات المستفيدة من المنظمة، وطرح العديد من الاستبيانات عليهم، بما يتعلق بكافة الجوانب المشمولة في عمل “مساحة سلام”.
ومن خلال الإحصائيات الموثقة بالأرقام والنسب والأسماء، أجرى الفريق استبيانات لعمل المنظمة بجانبيها السلبي والإيجابي من خلال عينة من المستفدين، فكان إجمالي من المتعاونين حول جودة وأداء المنظمة، 26 مستفيدة، قيم 79.5% منهن عمل المنظمة بالجيد، وهذه النسبة لعلها متوقعة، إذ أن العمل في الحياة السورية مطلب بغاية الأهمية، وهذا يعكس قابلية المنظمة لتوفير أكبر قدر من الإمكانيات للمستفيدات.

ربيع العمر.. خطوات نحو حياة مستقرة
10.8% اعتبرن بأن آلية العمل فيها متوسطة، وهذه النسبة من المنظور التقييم العام، فهي كبيرة، فهؤلاء ابتعدوا عن مديح المنظمة، ولم يتحدثوا عن سلبياتها، ولعل هذه النسبة من السيدات، هي الفئة التي تريد المحافظة على عملها فحسب.
في حين قالت 6.2% من السيدات المشاركات في الإستبيان، بأن العمل دون الجيد، واللافت هنا أن 3.3% رفضن تقييم العمل، في هاتين النسبتين تظهر فوارق متباينة عن النسبة الأكبر للسيدات اللاتي اعتبرن عمل المنظمة جيداً، وكذلك فإن تصنيف العمل “دون الجيد وبعضهن امتنع عن التصويت من أصله” وهذا مؤشر خطير، إنما يدل على عدم المكانة الواحدة لجميع المستفيدات من قبل المنظمة، ومن امتنع عن الإدلاء بصوته، فهو ربما يصنف ضمن الفئة الغير راضية عن العمل، لأسباب لم نستطع معرفتها.
التعليم، عصب الحياة وعماد المستقبل، وهذه لفتة لوحظت بنسبة كبيرة بين المشاركات المستفيدات في الإحصائية، إذ اعتبرت نسبة 92.4% من المستفيدات، بأن “مساحة سلام” توفر لهم دعماً تعليماً جيد، رغم الظروف القاسية المحيطة بهم، وهنا إذا ما عدنا للإحصائيات العلوية، فإننا نرى بأن النسبتين الأكثر 79.5% و10.8%، قد اجتمعتا على ذات الهدف وهو التعليم، في حين اجتمعت الفئتين الممتنعة عن التصويت وتلك التي قيمت عمل المنظمة بأنه دون الجيد، على أن العامل المالي هو الأهم من وجهة نظرهن، وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على حاجتهم للمال لمواجهة الظروف القاهرة بداية، ولربما من هذا الجانب فضل الدعم المالي على الدعم التعليمي.
ما تم ملاحظته في الاستبيان، هو عامل الحرية في التصويت من قبل المستفيدات، فكل منهن قالت رأيها بكل شفافية دون أي مخاوف، 68.9% من المستفيدات قلن بأن الخدمات تقدم بشكل غير منتظم، في حين تحدثت نسبة 24.1% بأن الخدمات تقدم شهرياً، وهذه أحصائيات تروي صعوبة التنقل من وإلى المنظمة، ومن جانب آخر لربما تشير إلى عدم توافر واسطات لتلبية الاحتياجات بشكل منتظم.
وتشمل النشاطات المتبعة تحويل المرأة من مستهلك إلى منتج من خلال تأهيلها ودمجها في سوق العمل، كما أن هناك جهوداً مبذولة لإعداد كوادر نسائية تشارك في صنع القرار المحلي بحسب ما قالته المديرة التنفيذية رنا بيطار.

إرادة الحياة والعلم تسابقان جولات الحرب
رسمت المنظمة لنفسها خطا واضحا منهجه الأساسي حماية ضحايا التعنيف الاجتماعي، وإدارة حالة المعنفات GBV case management وذلك بحسب ما صرحت به “رنا بيطار”، المديرة التنفيذية للمنظمة في لقاء خاص مع موقع هيومن فويس.
وقالت بيطار إن المنظمة “تقوم بتدريب ما يتعلق بالعمل الإنساني مثل المعايير الدنيا لحماية الطفل وتوجيهات العنف القائم على النوع الاجتماعي والتوعية من “الاعتداء الجنسي”، وأضافت ” ننشط في التأهيل والتدريب المهني إلى جانب اهتمامنا في تأهيل قيادات مجتمعية نسوية وتمكينهن”
موضحةً أن المنظمة بصدد إطلاق مشروع جديد يصب في قضايا مناصرة حقوق المرأة، ونظراً للكثافة السكانية العالية في الشمال السوري، وظروف الحرب والتنقل المستمر فإن النشاط البشري بطبيعته سيوجد العديد من قضايا العنف والمشاكل المجتمعية بحسب ما يقول علم الاجتماع” هناك نوع من الصلة بين ارتفاع الكثافة السكانية وتفشي ظاهرة العنف والجريمة والفوضى الداخلية”، ما يجعل العمل بهذا الاتجاه غاية في الأهمية.
وفي هذا الصدد، تقول “مرح الزير” الاختصاصية في الجانب النفسي والاجتماعي ضمن فريق “هيومن فويس”: في الحروب من الطبيعي أن يحصل تغيير ديمغرافي للمناطق وهجرة عدد كبير من السكان بشكل قسري الى مناطق اخرى، وزيادة نسبة عدد سكان مناطق معينة مقارنة بمناطق اخرى مما يؤدي الى اضطراب الحياة الاجتماعية واختلال التوازن المجتمعي والاقتصادي والسياسي وربما الطائفي وتتزايد ظاهرة العنف والجريمة وتعم الفوضى نتيجة هذا التغير الغير الطارئ والغير متوقع
وتواجه منظمات المجتمع المدني ضغطاً كبيراً بين الأهداف التي وجدت لأجلها وبين واقع تتسع فيه رقعة الاحتياجات مع ازدياد التوتر السياسي والعسكري بين جميع الأطراف المتصارعة؛ تزامناً مع شح في موارد التمويل والقدرة على الاستمرارية وتقديم المساعدة وفق المعايير المرسومة.
وجدت العديد من منظمات المجتمع المدني المهتمة بالشأن السوري ميداناً غنياً في الشمال السوري؛ حيث أكبر تجمع بشري سوري خارج عن سيطرة الحكومة، مدارٍ بشكل ذاتي أقرب إلى العشوائية؛ فرصتها في تدعيم الوعي انطلاقاً من مبادئ تؤمن بها وتعمل لأجلها، وتعد منظمة مساحة سلام Space of peaceواحدةً من هذه المنظمات.