هيومن فويس: ياسمينا بنشي
بيديها المرتجفتين تقلب ميسا صوراً عايشتها وتستحضر ذكريات أعوام من الثورة في غرفتها الصغيرة التي تبدو وكأنها معرض فني تحتضن جدرانه العشرات من الصور التي تروي مراحل الثورة السورية وتعج بألوان الفرح والألم بآن معاً كأنها رسم على الموت تقول ميسا بينما تحتضن صورة ولدها الشهيد وتتأمل ملامح وجهه تتدارك دموعها وصوتها المرتجف لتقول بنبرة قوية: “إنه شهيدي الذي قضى بصاروخ طائرة لم يدري من أسقطه ما حلَّ بي، بعد أن أسكت العرق النابض في ولدي وأخذ معه أملي الكبير من هذه الحياة.
تتابع ميسا حديثها “بدأت حياتي العملية في حلب مع انطلاق شرارة الثورة السورية، في العمل كناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق الحراك السلمي في المدينة رغم المخاطر الكبيرة التي كانت تواجهنا جميعاً.. تواجهنا جميعاً.. نعم جميعاً، هكذا كنا صوتاً واحداً وهدفاً واحداً.. الصورة الزاهية تحولت إلى مشهد قاتم، إنّها لوحة من السواد لا أستطيع رسمها” هذا هو حال ذاكرتها كحائط لعرض الصور، كيف لا وهي التي اعتادت على توثيق كل صغيرة وكبيرة من خلال التصوير بعدستها أو بذاكرتها المتعبة! “تنسيقيات ومظاهرات وعمل مدني هو عملي الأساس في بداية الثورة بالإضافة لمساعدة النازحين القادمين من المناطق المنكوبة في حمص ودرعا وغيرهما من المدن التي كان يقتحمها النظام ويهجر أهلها, كنا نعمل من خلال مجموعات على تأمين السكن ومعظم الاحتياجات الأساسية لهم, كانت عيوننا تغادر كل لحظة إلى المناطق المحررة و ندعوا الله أن يزول الخناق الأمني عن مدينتا حلب.
لم أستطع تحمل ما يجري في الآونة الأخيرة من سيطرة قوات النظام على المدينة وتضيق الخناق علينا مما اضطرني مكرهةً لمغادرة مدينتي حلب أنا وعائلتي في بداية عام 2012 متوجهةً الى مدينة الأتارب في ريف حلب الغربي والتي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية.
في تلك الفترة تحديداً انتقلت من العمل السري إلى العمل الثوري العلني وقد كنت المرأة الوحيدة التي تعمل كإعلامية في تلك المنطقة، لم أكن آبه لما يدور حولي في المجتمع الريفي، عامان من العمل على التوثيق في الداخل السوري وتجسيد الواقع من خلال إظهار الصورة الحقيقية لما يجري, توقفت ميسا عن الحديث للحظات وكأن شيئاً من الارتباك سكن حنجرتها بعدما استرقت نظرةً لصورة ولدها الشهيد محمود قبل عودتها للحديث لم تستطع ان تخفي دموعها “الحمد لله” هذا ما قلته عندما تلقيت نبأ استشهاده، كنت في تركيا آخر أيام رمضان من العام 2014 لحضور مؤتمر يخص المرأة والعمل الاغاثي… تركت كل شيء خلفي وعدت لأودعه الوداع الأخير قبل أن يحتضنه التراب.. في ذلك الوقت لم أذهب إلى البيت للنحيب كما تفعل معظم الأمهات كان يومها يصادف وقفة أول أيام عيد الأضحى، اليوم الذي انتهينا فيه من توزيع الملابس والهدايا على الأطفال، لقد استطاعوا بضحكاتهم البريئة تخفيف حزني وإزاحة ألمي..
تتابع أم محمود قصتها وتقول: “مع نهاية عام 2015 اضطررت للعيش عدة أشهر في تركيا بعيدة عن بيتي وعملي بسبب هجوم التنظيمات المتطرفة على المنطقة التي كنت أعيش بها في ريف حلب، وملاحقتهم لي واعتقالي ليوم كامل بسبب عملي ونشاطي الذي يعتبرونه من المحرمات! هكذا قال لي المحقق أثناء جلوسي للتحقيق معصوبة العينين بتهمة دعم نشاط المرأة في المجتمع ضمن المناطق المحررة والنشاط الإعلامي. أمرني المحقق بالكف عن عملي وإلا القصاص والموت، تماما كم أراد عناصر وأتباع النظام السوري ولكن لماذا ؟؟ أسائل نفسي، لم أعد أعي ما الذي يقوله الرجل أمامي، لم أكن أسمع سوى أصوات السب والشتم وأنين رجل في الزنزانة المجاورة، وكأنه لا يرغب أن يزعج المعتقلين بصوته أو يشغلهم بما يكابده في مصارعة الألم هل سيأتي يوم وتنتصر تلك القيود على السجان؟ لم أجد جواباً حينها بسبب مقاطعة السجان وأمري بالنهوض بعد أن انتهى من استجوابي بقيت في زنزانتي المنفردة يوماً كاملاً .. كان الظلام يحيط بي ويأكل جدران المكان لكني كنت واثقة من الحرية مجدداً فأهل القرية كما عهدتهم كانوا بجانبي واستطاعوا إخراجي من السجن بعدة مفاوضات وتعهدات ما بينهم وبين مسؤولي ذلك الفصيل.
بعد أشهر عدت إلى مدينة حلب لمتابعة عملي مرة أخرى، ولنقل ما يجري من قصف وتهجير لأهالي المدينة، بالإضافة للعمل الإغاثي الى أن اشتد الحصار والخناق علينا وازداد قصف الطائرات لأعود مرة أخرى في العام 2016 إلى الأتارب وقمت بالعمل على تأسيس (مركز بناء الأسرة) وكان التركيز في العمل ضمن هذا المركز على تمكين المرأة ورعاية الطفل والعمل الإنساني عموما وتسليط الضوء على الانتهاكات الحاصلة ضد المرأة، والعمل على دمج المجتمع المضيف بالمجتمع المهجر وتقريب العادات والتقاليد فيما بينهم”
تقول ميسا أن هدفها من عملها هو أن تنال المرأة حقوقها وأن تكون فاعلة وصاحبة قرار ضمن مجتمعها من خلال حملات التوعية وضمن فريق عمل مكون من النساء الناشطات إضافة الى مبادرات نسائية قامت بها ميسا مع الفريق كان أهمها وقفة الغضب لأجل سوريا مطالباتٍ الفصائل العسكرية بوقف الاقتتال وقادت ميسا العديد من المظاهرات التي تطالب بخروج الفصائل المتطرفة من مناطقهم.
كما أنها تعتبر اليوم في مجتمعها وضمن عملها من النساء القويات البارزات في مجالهن العملي وهي تحاول الآن مع الفريق النسائي العمل على بناء مؤسسة قادرة على تفعيل دور المرأة والارتقاء بالعمل الإعلامي وإنشاء شبكة صحفية إعلامية نسائية بالداخل السوري يكون لها دور فعال في إبراز القضايا المجتمعية للمرأة. “المرأة السورية قادرة على تحدي الحرب، وقادرة على خدمة قضيتها في العديد من المجالات” بهذه الكلمات اختتمت ميسا حديثها، وهي مازالت تحتضن صورة ولدها، وكأنها تستمد منها قوة النساء لتقول: أنا الأم الثائرة المناضلة في سبيل قضيتي.